المكتبة المركزيّة لجامعة دمشق
"تُعتَبَر المكتباتُ العامّة، بين المنشآتِ الحديثة، النّموذجَ الأكثر دلالةً على تطوُّر فنّ العمارة المعاصِر واتّجاهِه نحو ربطِ التّصميمِ والشّكلِ بالغايةِ والوظيفة". - خليل الفرا.01
في خمسينيّات القرنِ الماضي أَوْكَلَ الدكتور قسطنطين زريق، رئيس جامعة دمشق حينها، تصميمَ بعضِ منشآتِ الجامعة إلى المِعمار السّوريّ خليل الفرّا، وكانتْ مكتبةُ الجامعةِ المركزية التي اتُّخِذَ قرارُ العملِ بها عام 1952 هي المشروعُ الثاني في هذا الصَّدد.02
كُلِّفَ د. زريق بانتقاءِ الموقعِ المناسبِ لهذا المشروع ولكنْ كانت الخياراتُ محدودة. فقد وقَعَ الخيارُ الأوّل في القسم الطبّي والإداري من حَرِم الجامعة، والذي كان غير صالحٍ لكونه مكتظّاً بالمباني وفُضِّلَ أنْ يبقى مخصَّصاً لطلّاب الطبّ فقط.
01 خليل الفرّا، مكتبة جامعة دمشق، المهندس العربي، أيار 1962.
02 خليل الفرّا، سبعون عاماً في العمل الهندسي، 2007.
أمّا الخيار الثاني فكان في القسم الجنوبيّ من حديقةٍ أمامَ كليّة الحقوق (الثّكنة الحميدية سابقاً) بالقرب من المدخل الشرقيّ لمجمّع كليّاتِ جامعة دمشق في منطقة البرامكة، وهو الموقعُ المختار لمشروع المكتبة.
أعطى المصمّمُ الأولويةَ للحفاظ على الحديقةِ الحاليّة وتجنّب أنْ يؤذي التّصميمُ الجديدُ المباني المجاورة أو أنْ يَطغى عليها، ولا سيّما كليّة الحقوق، مع الحفاظِ على الاتّساق العام في التكوينات والشّكل. تأثّرتْ خياراتُ التّصميمِ بشكلٍ كبيرٍ بمحدّدات موقع المشروع، بما في ذلك شارعُ البرامكة (أو شارع الجامعة) المزدَحِم إلى الجنوب، ومحطّة قطّار البرامكة القريبة منه، والأجزاء الباقية مِن الحديقة إلى الشّمال.03 ممّا أنتجَ كتلةً متراكبةً من الأشكال البسيطة بارتفاعاتٍ مختلفةٍ ناتجةٍ من التفاعل مع معطيات موقِعِ المشروع ووظائفِه.
تحتوي الكتلةُ المركزيّة المُصْمَتَة والأكثرُ عُلوّاً في المبنى على مستودعاتِ الكتب بشكلٍ أساسيّ، موزَّعةً على خمسة طوابق، بالإضافة إلى المكاتب الإداريّة وبعضِ الخدمات الأخرى. تقع هذه الكتلة بمحاذاة الشارع الجنوبيِّ، وتقومُ بدورِ حاجزٍ يعزلُ قاعةَ القراءة الرئيسيّةَ عن ضوضاء الشّارع.
03 محطة البرامكة: أنشئِتْ في عام 1895 وهُدِمَت في ستينيّات القرن العشرين لصالح مشروع محطّة انطلاق الباصات والسيارات.
(ياسر حمزة، “محطة دمشق…أقدم محطة قطار في سورية،” جريدة الثورة، تموز 16، 2023.
بالإضافة إلى ذلك، لتحقيق بيئةٍ هادئةٍ والاستفادةِ من الإضاءة الطبيعيّة غير المباشرة، تَبرزُ الكتلةُ الحاويةُ على قاعةِ القراءة الرئيسيّة على الجانب الشّماليّ من الكتلة الرئيسيّة بارتفاعِ طابقَين وتُطِلُّ على الحديقة ومِن ورائها أفقُ المدينة الواسعُ. رُفِعَتْ قاعةُ القراءة إلى الطّابق الأوّل على شبكةٍ من الأعمدة وتمّ الحفاظُ على الفراغِ المفتوحِ الموجودِ تحتَها وتَرْكُه على اتّصالٍ بالحديقة، ممّا أعطى المبنى انطباعاً خفيفاً بين المباني المجاورة.
04 الفرّا، "مكتبة جامعة دمشق"
05 المصدر نفسه.
أثناء العملية التّصميمية، حدّدَ الفرا الأهدافَ والوظائف الرئيسيّة لمكتبة الجامعة، بما في ذلك الحفاظُ على الوثائق، وتسهيلُ دَور المشرفِين، وخلقُ جَوٍّ هادئٍ لجَذبِ القرُّاء. كما حدَّدَ ثلاثةَ مساراتِ حركةٍ رئيسيّة في المكتبة: حركةُ الكتب منذ وصولها إلى مستودعات الكتب، وحركةُ القُرّاء داخلَ المكتبة، وانتقالُ الكتب من المستودعات إلى القرّاء والعودة مرّة أخرى. كما حَدّدَ أنواعَ القُرّاء القادمين لمكتبة الجامعة واحتياجاتِهم، كالطّلاب الجامعيّين الذين يشكّلون العدَدَ الأكبر من المستخدِمين باحتياجاتٍ محدودةٍ مِن الكتب، بالإضافة إلى طلّاب الدّراسات العُليا والباحثين ذوي العدد الأقلّ، مع حاجتِهم للوصول لمجموعاتٍ واسعةٍ مِن الكتب.05 ولمعالجة هذه الوظائف والأهداف، شملَ التصميمُ أربعةَ أجسامٍ وظيفيّة رئيسيّة متّصلة مِن خلالِ أنْويةِ الحَركة الأفقيّة والعموديّة: وهي مستودعاتُ الكتُب، وقاعةُ الكتالوج والفهارس، وقاعاتُ القراءة، والمَرافِقُ الإداريّة والفنّية.
يحوي الطابقُ الأوَّلُ، وهو المستوى الرئيسيّ للمشروع، على المدخل الرئيسيّ للمكتبة، والذي يمكن الوصول إليه عبر دَرَجٍ خارجيٍّ عريض. يُفتَحُ المدخلُ على بهوِ دخولٍ صغيرٍ يحتوي على مكتبِ مراقبةٍ وغرفةِ أماناتٍ ودوراتِ مياهٍ ودرجٍ داخليٍّ رئيسيٍّ يؤدّي إلى المستوياتِ الأخرى. على يسار المدخل، تمتدُّ قاعةُ الفهرس على ارتفاع طابقَين، لتكون بمثابة نواةِ الحركة المركزية للمكتبة، والتي تربط جميع الوظائف داخلَ المبنى. على المستوى الأفقي، تُسيِّرُ القاعةُ حركةَ الموظفين والزوّار وتضعُ مكاتبَ الإعارة في نقطةٍ استراتيجيّةٍ تُسَهِّلُ المراقبة، ممّا يقلّل مِن عدد الموظَّفين المطلوب. أما شاقوليّاً، فيتيحُ تصميمُ القاعة الممتدّة على طابقَين التحكُّمَ في الممرِّ الواصل إلى قاعات الطّابق الثاني، ويحافِظُ على الاتصال البصريّ بين المستويَين. يرتبطُ مكتبُ إعارة الكتب أيضاً بقاعاتِ القراءة ومستودعاتِ الكتب مباشرةً. كما تتخلّلُ الإضاءةُ الطبيعيّةُ قاعةَ الفهارس مِن خلالِ الجزء المرتفِع مِن السَّقفِ والنوافذ الشماليّة الواقعة فوق مستوى قاعة القراءة.
تتمَوضَعُ قاعةُ القراءة الرئيسيّة بجوار قاعة الفهارس إلى الشّمال، مع وجودِ قاعةِ قراءةٍ ثانويّة أسفَلَها مباشرةً، في الطّابق الأرضيّ. تخترقُ أعمدةٌ دائريّة القاعتَين، ويمتدُّ صَفَّان منهما فقط إلى الطّابقِ الأوَّل، ممّا يسمحُ بفراغٍ أكثر انفتاحاً. يحتوي الطّابقُ الأرضيُّ أيضاً على مكتبَين ودوراتِ مياه، يمكن الوصول إليها عبر الدَّرَج الدَّاخليِّ الرئيسيّ.
يحوي الطَّابقُ الثّاني خمسَ قاعاتِ قراءةٍ خاصّة ذات أبعادٍ مختلِفة، يمكن الوصولُ إليها عبر ممرٍّ يُطِلُّ على قاعةِ الفهارس.
أمّا مستودعاتُ الكتب، فتمتدُّ كنواةٍ عموديّة على خمسة طوابق بسعة 300000 مجلّد. وهي تتألَّفُ من صفوفٍ متوازية مِن خزائن الكتب ومصعدَين وسلالم معدنيّة، إلى جانب مصعدَين أصغر يخدمان مكتبَ الإعارة. توجدُ مَرافقُ إضافيّةٌ للطِّباعةِ والتَّجليدِ والنَّسخِ وغيرها من الخدمات في الطّابق السفليّ والطابق الأرضيّ.
تتميَّزُ الواجهةُ الجنوبّية باحتوائها على نوافذَ متنوِّعةِ الأشكالِ والأحجام، تعكسُ تنظيمَ الوظائفِ داخلَ الكتلة ومِن خلال تجاورها يظهرُ سطحُ الواجهةِ كأنَّه حاوٍ لنُسجٍ مختلِفة. فنوافذُ مستودعاتِ الكتب صغيرةٌ ومستطيلةٌ وشاقوليّة، كما أنّها مقسَّمةٌ إلى أربعةِ أقسامٍ بوساطة كواسِرِ شمسٍ أفقيّةٍ من البيتون، ويتناسبُ عرضُ وتباعدُ هذه النوافذ مَع عرضِ خزائنِ الكتبِ خلفَها والممرّ بينها. تَخلِقُ هذه المنطقة من الواجهة نسيجاً يبدو متكرِّراً وخِشناً، نظراً لكثرة الفتحات المتقاربة والصّغيرة. أمّا على الجانب الأيسر العُلويّ من الواجهة، فتنعكسُ قاعاتُ القراءة الصّغيرةُ ومكاتبُ الإدارة على السَّطح بصفٍّ من النوافذِ الكبيرةِ المقَسَّمةِ بشبكةٍ من المربَّعات، محاطة بإطارٍ مضاعَف ويعلوها صفٌّ من النّوافذ المستطيلة الصّغيرة. هذا القسمُ من الواجهة يَنتجُ عنه نسيجٌ أكثرُ نعومةً. بالإضافة إلى ذلك، يستمدُّ القبوُ إنارتَه الطبيعيّة مِن خلالِ صفٍّ واحدٍ من النّوافذ المستطيلة الصَّغيرة في الجزء السُّفلي. يرتفعُ الجسمُ الذي يحوي الدَّرَجَ الدّاخليّ قليلاً عن المبنى الرئيسيّ ويتميّزُ بواجهاتٍ زجاجيّةٍ مفتوحةٍ على الجانبَين الشّماليّ والجنوبيّ، محاطاً بإطارٍ بيتونيٍّ مُصْمَت.
تمّتْ تغطيةُ الأسطحِ الخارجية للمبنى بالرَّشَّةِ البيتونيّة. ويتكوَّنُ الهيكلُ الإنشائيُّ للمبنى مِن أعمدةٍ وبلاطاتٍ بيتونيّة مُسلَّحَة، حيث استخدُمَت البلاطاتُ البيتونيّة مع بلوكات مفرَّغة في مستودعاتِ الكتب. ولتقليلِ سماكةِ البلاطات، رغماً عَن الوزن الكبير الذي مِن المفترض أنْ تحملَه، تمَّتْ زيادةُ عددِ الأعمدة وترتيبها لتكونَ بالترتيبِ نفسِه الذي لخزائنِ الكتب.
نظراً لقيودِ ميزانيّة المشروع، تمّ اختيارُ موادَّ منخفضةِ التّكلفة للأعمال التكميليّة مثل الإكساء والأرضيات، باستثناءِ سقفِ قاعةِ القراءة، والذي تمّتْ تغطيتُه بألواحٍ عازلةٍ للصَّوت تمّ استخدامُها أيضاً لإخفاءِ عناصرِ الإضاءة. بالإضافة إلى ذلك، تمَّ دمجُ نظامِ التّدفئةِ المائيّة في التَّصميم. 06
01 خليل الفرّا، مكتبة جامعة دمشق، المهندس العربي، أيار 1962.
02 خليل الفرّا، سبعون عاماً في العمل الهندسي، 2007.
03 محطة البرامكة: أنشئِتْ في عام 1895 وهُدِمَت في ستينيّات القرن العشرين لصالح مشروع محطّة انطلاق الباصات والسيارات.
(ياسر حمزة، “محطة دمشق…أقدم محطة قطار في سورية،” جريدة الثورة، تموز 16، 2023.
04 الفرّا، "مكتبة جامعة دمشق"
05 المصدر نفسه.
06 المصدر نفسه.